كيلا يسرق غد أبنائنا
حين أتابع طرق التدريس الحديثة، وخبرات معلمين ومعلمات حول العالم في الارتقاء بتلامذتهم إلى مسطحات جديدة من المعرفة، من خلال البحث والتحليل والتجربة؛ أجد أنني كنت نوعا ما محظوظة في تلقي العلم على أيدي من كان جل اهتمامهم العمل على تغذية الفكر والروح، وبناء القيم مع تقوية الجسد، شخصيات تعيش مع أحداث مجتماعتها، وبنفس الوقت تتفاعل مع أمتها ومع العالم، نعم كنا نخضع لمناهج تتسق مع أهداف ومتطلبات الدولة للتعليم العام، ولكن كان هناك شيء اسمه "الإثراء" للمناهج المعتمدة من قبل بعض المعلمين والمعلمات، الذي ترجم في طرق التدريس إبداعية، المهم هنا أننا كنا نعيش التاريخ من خلال زيارة المواقع الأثرية، نتذوق اللغة من خلال إحياء معانيها بدمجها مع رحلات إلى قلب الطبيعية، وتدربنا على الحوار، وأحترام الرأي الآخر من خلال حلقات النقاش الأسبوعية، التي كانت تقام لجميع المراحل أسبوعيا، حيث كان يأخذ محور الحوار حدثا محليا أو عالميا، كنا نُجهز على أن نكون أفرادا فاعلين في مجتمعاتنا، واليوم أرى أننا نجهز أبناءنا كي يعيشوا على الهامش؛ لا ثقافة، ولا فكر، ولا حوار، حتى الرياضة لا دور لها في حياتهم سوى تشجيع الأندية، إن لم تكن أحد أسباب شيوع التعصب والعداء أيضا!
ما نريده اليوم ليس فقط اختيار القادة من المتقدمين لكليات التربية، بل نريد أيضا أن نعمل على تجهيزهم على طرق تدريس تدور حول تسليم أمور التعلم للطلبة أنفسهم، وهذا ليس بالأمر السهل، يحتاج إلى الكثير من التدريب والتأهيل، كما فعلت دولة فنلندا في التسعينات من القرن الماضي، حيث قامت بإجراء ثورة في إعادة بناء المناهج، والبنية التحيتة، وتدريب هيئة تعليمية قادرة على قيادة هذا النهج الجديد من التعليم، فأوصلها كل ذلك في عام 2003، إلى المستوى الأول في الأداء والناتج التعليمي التربوي على مستوى العالم.
لماذا الأمر صعب بالنسبة للمعلم الذي تعود على أن يشرح الدرس وإعطاء أمثلة ومن ثم يترك التلامذة على بناء خبراتهم من خلال تطبيق التدريبات ذات الأهداف الموضوعة مسبقا؟ كيف لمعلم لم يتدرب أن يبحر داخل المنهاج ويخرج بجموعة من الأسئلة تتحدى فكر التلاميذ وتجعلهم يبحثون عن الحل بأنفسهم، ليس فقط في مواد مثل التاريخ أو الرياضيات أو العلوم بل في جميع المواد؟! كيف له أن يجد ذاك الخيط الذي يربط عدة مجالات ويحوله إلى سؤال أو قضية ويترك الدفة للتلاميذ، فيتحول من منظر أو محاضر إلى مسهل أو مرشد إن احتاج الأمر؟!
إن التلاميذ يتعلمون من خلال دافع الفضول واللعب، فمن خلال ذلك يتعرفون على واقعهم وعلى العالم من حولهم، فنأتي نحن ونجبرهم على التعلم من خلال منهاج مدرسي مفروض عليهم، بمعنى أننا نقول له إن: "أسئلتك لا تهمنا، وما يهم هي الأسئلة التي وضعت لك في المنهج"! هل يمكن للتلاميذ أن يتعلموا بأنفسهم؟ نعم، لنأخذ كمثال تجربة أحد متخصصي التربية والتعليم في جامعة "mit" حيث قام بتجربة في إحدى قرى إثيوبيا.. سلم التلاميذ أجهزة حاسوب محمولة، دون أن يفتح الصناديق أو حتى يعطيهم أي تعليمات عن كيفية تشغيليها، وما لبث التلاميذ أن تعلموا كيف يفعّلون برنامج أغاني الأطفال، بل إنهم علموا أنفسهم طرق كتابة الأبجدية، وحتى أنهم فعّلوا خاصية التصوير التي كان قد تم إيقاف عملها من الشركة نفسها على الأجهزة!.
يقول أحد المعلمين الذي استخدم طريقة ترك التلاميذ يتجولون بأنفسهم بين الأفكار واللعب بها من أجل التوصل للمعلومة وبالتالي اكتساب المعلومة، يقول عن إحدى تلميذاته التي أخذت المركز الأول بالرياضيات على مستوى الدولة: إنه حين وصلته النتائج، التي لم تكن تهمه بالأصل؛ لأن هذه النوعية من الاختبارات المركزية تدور حول ما يعرفه الطالب وليس ما يمكن أن يفعله بما يعرف...
جلس إلى جانبها وسألها: "لماذا لم أشعر بأن لديك أي اهتمام بالرياضيات من قبل بما أنك تمتلكين هذه القدرات العالية في التعامل مع هذه المادة؟" أجابته: "لأنه لم يقدمها لنا بطريقة مثيرة من قبل مثل ما فعلته أنت معنا"، إذن.. إن كان التلميذ أو الطالب هو المحور والمركز، فإن المعلم الكفء هو الأساس، وما أعنيه بالكفء ليس فقط المعرفة بأساسيات المادة والإلمام بطرق التدريس المختلفة بل أيضا قدرات خيالية إبداعية في بناء البيئة التعليمية التي يزهر فيها الفكر وينمو ويتفرع.
وبالنسبة للكثير من تلامذتنا ومعلمينا المبدعين منهم ـ سأستخدم شخصيتي الأساسية...معلمة؛ في محاولة تقريب الصورة ـ تقول القصة إن رجلا كان له حيوان عجوز، ويوما وقع هذا الحيوان في بئر قديم ناشف، درس الرجل الأمر فوجد أنه من الصعب إخراج الحيوان، كما أنه لم يكن يريد أن يقع أي إنسان أو حيوان آخر في البئر فقرر أن يغمر هذا البئر بالتراب، وسمع صريخ الحيوان ولكنه استمر بعمله، وبعد فترة لم يعد يسمع أي صوت، فظن أن الحيوان قد نفق، ولكنه فوجئ بأن الحيوان قفز من البئر أمامه، لقد كان ينفض التربة عن ظهره ويصعد فوقها، وهكذا حتى أصبح أعلى البئر، وهكذا نجد أن المبدعين لدينا من التلاميذ ـ وبمساعدة المبدعين من معلميهم ـ قفزوا فوق كل ما كان يرمى من فوقهم من تجارب وقرارات، فصعدوا فوقها وتقدموا، ليس لأنها وضعت أصلا من أجل تقدمهم، بل لأنهم عدّوها تحديات فعملوا على استخدامها ولم يسمحوا لها بأن تستخدمهم... يقول أبراهام مازلوا " لو أن أداتك الوحيدة هي المطرقة فلسوف ترى كل مشكلة على أنها مسمار"، لنعمل على تنويع أدوات الفكر وسبل التعلم، لنترك لهم الملعب ونعطيهم الحرية في التوصل إلى المعلومة، لنجعل منهم قادة كي لا يتحولون إلى مسامير يطرقون على رؤوسهم!



ميسون الدخيل
صحيفة الوطن